تعريف بـ(كتاب فقه الاختلاف عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب للشيخ إبراهيم صديق )- بقلم: أ. عمار أعظم


                   مقدمة

كلما تبحبح العقل رجح رأيه، وكلما انغلق وتعصب ضاق عطنه، وكلما فقه سنة الاختلاف وفقهه وحكمه وأسراره سدّدت خطواته؛ ففرق كبير بين من يتعامل مع مخالفيه تعصُّبًا لشيخ أو شخصية أو فكر أو طريقة وبين من يجعل عصبيته لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ويسير على هدى القرآن القائل: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118، 119]؛ فالاختلاف بين الناس واقع لا محالة، وحينئذ لا مفر من التفقه بفقه الاختلاف والتأدب بأدب التعامل مع المخالف؛ من الإنصاف والعدل وإحسان الظن وهي أصعب ما تكون عند الاختلاف، بالإضافة إلى التثبت والحكم بالظاهر دون الدخول في النيات والحكمة في التعامل مع المخالف بين اللين والشدة كل في موضعه.

والإشكال كل الإشكال أن ينخرط المرء في مساوئ الاختلاف وما أكثرها من مساوئ؛ ومنها أن يردي به الاختلاف في مهاوي العصبية واحتقار الآخرين ويبتلى بها شعر بها أم لم يشعر، وهي أعظم بلية بُلي بها أرذل الأمم اليهود، وهي أرذل صفة اتصفوا بها حتى إنهم حكموا على نسائهم بحرمة إرضاع طفل من غيرهم ولو أوشك على الهلاك لعدم الغذاء([1])! لست هنا للحديث عن تفاصيل ذلك ولكنني أشير إلى أن ذلك هو منتهى عدم التفقه بفقه الاختلاف.

ولذا كان لزامًا على المسلم اليوم التأمل في حال السلف وأدبهم وفقههم عند الاختلاف وقد تعاظمت الاختلافات وتشعبت الاتجاهات؛ وفي هذا السبيل انطلق الكتاب الذي هو محل حديثنا محاولًا الإجابة عن الآتي:

ما هو منهج السلف في التعامل مع الخلاف والمخالفين؟

ما هو منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في التعامل مع المخالفين؟ وهل كان يتسم بفقه الاختلاف أم لا؟

ما مدى صحة دعوى التيارات التكفيرية المعاصرة انتسابها إلى دعوة الشيخ؟ وهل انتسابهم إلى دعوته ونشرهم لكتبه انتسابٌ صحيح بالنسبة إلى تطبيقاتهم؟

هل تنطلق الجماعات الغالية في التكفير من منطلقات الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتوافقه؟

المعلومات الأولية للكتاب:

عنوان الكتاب: فقه الاختلاف عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكشف الشبهات حول دعوته.

اسم المؤلف: الأستاذ إبراهيم بن محمد صديق، الباحث بمركز سلف للبحوث والدراسات.

تقديم: صاحب المعالي فضيلة الشيخ محـمـد بن حـسـن بن عبـد الرحمـن آل الشيــخ، عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للفتوى.

دار الطباعة: مركز سلف للبحوث والدراسات – مكة المكرمة.

رقم الطبعة وتاريخها: الطَّبعة الأولَى، عام 1444هـ-2022م.

حجم الكتاب: يقع في مجلد وعدد صفحاته (322) صفحة.

أهمية الكتاب:

تكمن أهمية هذا الكتاب في كونه يناقش قضية محورية نحن في أمس الحاجة إليها في الوقت الراهن، وهو فقه الاختلاف، وازداد أهمية بأن كان محور حديث الباحث فيه هو فقه الاختلاف عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله؛ فلقد تتابعت أصابع الاتهام إليه، وزاد الطين بلة أن زوِّر له نسب وجعلت له وشيجة مع طوائف غالية تكفيرية! وجعلوا محور العلاقة بينه وبينها هو تعامله مع المخالفين! وفي بيان علة تركيزِ المؤلفِ عدسةَ بحثه على الشيخ رحمه الله يقول: "ومن أشدِّ مَن رُمي اليوم بهذه التهمة الشَّنعاء: الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب، فقد اتُّهم بأنه هو والجماعات الخارجة والغالية في التكفير سواء! ولم تكن التهمة من خارج المنظومة السلفية فحسب؛ بل حتى من داخلها! وهي مجرد تهمة كما سيأتي التفصيل في الكتاب، ونحن لسنا بدعاة عصمة لأحد، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا نبينا محمد ﷺ، والشيخ محمد بن عبد الوهاب ليس معصومًا، ونرحب بكل قراءة نقدية لفكره ومخرجاته العلمية؛ لكن يعنينا جدًّا عدم رمي التهم جزافًا لصد الناس عن فكرة أو دعوة، وللأسف هذا هو المعمول به من قبل معظم المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب= فلا نقد صحيح ولا دليل يستندون إليه! وقد رماه بهذه التهمة كثيرون".

وقد قدم للكتاب معالي الشيخ محـمـد بن حـسـن بن عبـد الرحمـن آل الشيــخ -عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للفتوى- ومما قال فيه: "وممَّن تصدَّى لتلك الشبهات وغيرها وفنَّدها فضيلة الشيخ: إبراهيم بن محمَّد صديق وفقه الله في كتابه المفيد: (فقه الاختلاف عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وكشف الشبهات حول دعوته)، وبيَّن فيه براءة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب من التُّهم التي شنَّع بها المخالفون عليه، مثل: التَّشدد والغلو، بل كان منهجه في تعامله مع المخالف معتدلًا على الكتاب والسنَّة بفهم سلف الأمة، كما بيَّن براءة دعوة الشيخ من المنتسبين إليها من الغلاة، مثل بعض الجماعات المعاصرة المتشددة في التَّكفير، كل ذلك بأسلوب علمي هادئ  يمتاز بالدقَّة".

وعن الموضوع المحوري للكتاب يقول الشيخ د. محمد السعيدي -أستاذ أصول الفقه بجامعة أم القرى ومدير مركز سلف للبحوث والدراسات- : "وسوف يجد القارئ في الكتاب معالجة لقضايا عديدة نالها الغبش وسوء الفهم حتى بلغ أن يصيب بعضَ أتباعها والمحسوبين عليها؛ ليتجلى من خلال الكتاب ما كان عليه الشيخ من رحابةٍ بالاختلاف وسعة أُفق في فهم المخالف مالم يكن عند مخالفيه أنفسهم الذين شنَّعوا عليه وعلى دعوته ورموها بالتكفير وضيق العطن، يقولون هذا وهم يُكفرونه ويفسقونه ويقاتلونه ويغزون أتباعه في عقر دارهم ثُم يغريهم الشيطان بقول عكس ما عليه الحال كذبًا ومينًا".

أسباب اختيار موضوع الكتاب:

عدد الباحث في مقدمته جملة من الأسباب التي دفعته إلى بحث هذا الموضوع ومنها:

(1) أن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب هي من أقرب الدعوات الإصلاحية لنا، وصاحبها إمام مجدِّد مجتهدٌ، وإبراز منهجه في التعامل مع الخلاف والمخالفين مهمٌّ للإفادة منه في إدارة خلافنا المعاصر.

(2) أن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب تتعرض في هذا العصر لشتى أنواع المحاربة وإلصاق التُّهم بها، ويجب علينا أن نقابل ذلك بإبراز حسنات الدعوة عبر دراسة جوانبها المتعددة.

(3) ظهور جماعات حديثة تدَّعي الانتساب إلى دعوة الشيخ وتمارس التطرف والغلو في التعامل مع الاختلاف والمخالفين، وترتكب باسمه أبشع أنواع التكفير والقتل، فجاء البحث ليبيِّنَ صحة أو خطأ هذا الانتساب من حيث الانطلاقات والمآلات.

(4) ظهور هذه الجماعات أظهر ردَّات فعل معاكسة؛ حيث وُصفت الدعوة بالغلوِّ في التعامل، ووصفت الدعوة بأنها أرض خصبةٌ لنشوء الجماعات الغالية في التكفير.

(5) الاختلاف نفسه وقع بين طرفي نقيض، فمنهم من يتخذه أداة للإقصاء والرمي بكل فسق وفجور، ومنهم من يتخذه مطيةً لتقبل أي رأيٍ وإن كان مخالفًا للشريعة بحجة وجود الاختلاف.

أهداف الكتاب:

حدد المؤلف لبحثه مجموعة من الأهداف يسعى للوصول إليها من خلال هذا البحث وهي:

(1) إيجاد المنهجية العلمية التي سار عليها السلف الصالح في تعاملهم مع الاختلاف من خلال أخذ أنموذج سار على ما سار عليه السلف، نحسبه كذلك والله حسيبه.

(2) وضع قواعد للاختلاف حتى نستطيع أن ندير حواراتنا واختلافاتنا بشكل سوي نخرج منها بالفائدة المرجوة منه.

(3) بيان المنهج الصحيح للشيخ باستقراء كتبه؛ حتى لا تكون الدعوة ملاذًا للمتطرفين، أو ترمى الدعوة بما ليس فيها.

منهج الكتاب:

أفصح الباحث عن الخيوط المنهجية الناظمة لكتابه في مقدمته، ومن أهم ما فيه:

(1)  حرصتُ في البحث على تتبع كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه من بعده، وجمع النصوص حول كل مسألة أبحثها، فإن هناك مسائل اختلف الناس في موقف الشيخ محمد بن عبد الوهاب منها وليس ذلك إلا لعدم جمعهم لجميع نصوصه في المسألة الواحدة، بل هناك من التُّهم التي رمي بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب لو جمعت فيها كل نصوصه لتبين أن ما رُمي به ناشئٌ عن تصوُّرٍ خاطئ لمذهبه.

(2)  قد بدأت كل مسألة ببيان أدلتها من الكتاب والسنة، وهدفي من الكتاب بيان أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يخالف السلف في هذه المسائل، بل كان سائرًا على طريقتهم ومنهجهم؛ ولذلك أردفت هذا ببيان منهج السلف من خلال كلامهم، ثم عرضت أقوال الشيخ وتطبيقاته وأقوال أتباعه وتطبيقاتهم.

(3)  في الكتاب ردٌّ على كثير من التُّهم التي توجه إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب ولكن حرصت على عدم ملء الكتاب بذكر قائلي تلك التهم ونصوصهم إلا ما قلَّ وندر، وإنما كان منهجي هو أن آتي إلى المسألة التي اتُّهم فيها فأبين موقفه الصحيح منها من خلال أقواله وأفعاله، فإذا عُرف موقفه الصحيح تبين بطلان كل التهم التي وُجهت له في ذات المسألة.

خطة الكتاب:

يتكون البحث من مقدمة وتمهيد وخمسة فصول وخاتمة، وتحت كل فصل عدة مباحث:

الـمقدمـة: وفيها أسباب اختيار الموضوع وهدف الكتاب ومنهجه وخطته والدراسات السابقة.

تمهيـد: وفيه بيان لحجم التشويه الذي يمارسه أعداء أهل السنة والجماعة في كل مكان وعلى مر العصور، كما فيه بيان لسبب دراسة منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالخصوص، ودعوى انتساب بعض الجماعات الغالية في التكفير إلى دعوته.

وفيه تنبه المؤلف لتساؤل يورده كثير من الناظرين لبحثه وهو:

لماذا محمد بن عبد الوهاب؟

وقد أحسن في الإجابة عن هذا التساؤل ومما قال فيه: "المطلع على الساحة الفكرية المعاصرة يجد أن التطاول على الدين متفشٍّ، وأنَّ محاولة إسقاطه أو تقليل التمسك به هو مما يثيره أعداء الدين من الملاحدة وغيرهم، ولهم في تحقيق هذا الغرض طرقٌ كثيرة من أهمها: إسقاط الرموز والعلماء حتى يستهين الناس بهم، ولايكون لهم قدرٌ ومنزلة، فيسهل حينئذ طرح الأفكار الهدامة دون أن تكون هناك أية مقاومة، وهذه الطريقة هي الأشد خطورة والأكثر تلبيسًا على الناس، وقد تكون محاولات الإسقاط وزعزعة مكانة العلماء والحط من قدرهم ممن ينصب عداءًا ظاهرًا للإسلام أو لأهل السُّنة، وقد يكون ممَّن يدَّعي أنَّه ينتمي لنفس المذهب ولنفس الدين، فينَظِّرُ له ويدافع عنه ثم يرتكب باسمه أشياء عظيمة تنافي العقل، وتضاد مراد الله ورسوله، وكل ذلك باسم العالم الفلاني أو المذهب الفلاني، وانطلاقًا من نظرياته، واستشهادًا بكتاباته ممَّا يُنفر الناس عن ذلك المذهب أو العالم بل حتى عن الدين، فكم من فظائعَ ارتكبتْ في العالم باسم الإسلام والإسلام بريء منها، ومن المعلوم أن أكثر منهجٍ يُحارب هذه الأيام هو منهج أهل السنة والجماعة، وهناك محاولات شتى بإسقاط رموزه وعلمائه المنتسبين إليه انتسابًا حقيقيًّا لا ادعاءًا، وكان اختياري لدراسة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لأمور أهمها أنه يمثِّل مدرسة إصلاحية قائمة لها رموزها وعلماؤها وكتبها، ومنهجها هو منهج أهل السنة والجماعة، وهذه المدرسة تُرمى اليوم بأعظم التهم ممن لم يعرف منهجها، ولم يقرأ كتبها، ولم يستمع إلى علمائها، وهذا التشويه أثَّر في معرفة الناس بهذه المدرسة والتنفير عنها، فكان لزامًا على الباحثين أن يبينوا للناس حقيقة هذه المدرسة وأنها لا تخالف منهج السلف، خاصة في القضايا التي يرمونها بها من قضايا الاختلاف والتكفير، وهذه الاتهامات للمدرسة وعلى رأسها الشيخ محمد بن عبد الوهاب ليست وليدة اليوم، بل منذ بدء دعوته...".

الفصل الأول: الاختلاف في الفكر الإسلامي. وقد بين فيه معنى الاختلاف، وموقعه في الشريعة الإسلامية، كما بحث فيه بعض المسائل التي فيها جدلٌ كبير، وقد جعله في أربعة مباحث:

الـمبحث الأول: تعريف الاختلاف.

الـمبحث الثاني: الاختلاف ضرورة إنسانية.

الـمبحث الثالث: الدعوة إلى الاتفاق ونبذ الاختلاف.

الـمبحث الرابع: هل الاختلاف رحمة؟

الفصل الثاني: فقه التعامل مع الاختلاف. وفيه بيَّن كيف تعامل الشيخ مع الاختلاف وذكر أبرز قواعده فيه، وجعله في سبعة مباحث:

الـمبحث الأول: الرجوع إلى الوحي عند الاختلاف.

الـمبحث الثاني: الرجوع إلى كلام العلماء.

الـمبحث الثالث: إزالة الشبهات.

الـمبحث الرابع: هل ينكر على المخالف؟

الـمبحث الخامس: فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الـمبحث السادس: موافقة الناس لتأليفهم.

الـمبحث السابع: التجرُّد للحق.

الفصل الثالث: فقه التعامل مع المخالفين. وفيه بين كيف تعامل الشيخ مع مخالفيه وما هي القواعد التي اتبعها معهم، وقد جعله في ستة مباحث:

الـمبحث الأول: إحسان الظن.

الـمبحث الثاني: الإنصاف والعدل.

الـمبحث الثالث: التثبت.

الـمبحث الرابع: الحكم بالظاهر.

الـمبحث الخامس: اللين والرفق.

الـمبحث السادس: التشدُّد مع المخالف.

الفصل الرابع: فقه التعامل مع التكفير. وقد بين فيه قواعده التي تعامل بها في قضية التكفير، وفيه رد على التُّهم التي توجه إليه في هذه القضية من خلال بيان موقفه الصحيح، وقد جعله في ثمانية مباحث:

الـمبحث الأول: التكفير حكم شرعي.

الـمبحث الثاني: بماذا يكفر الشيخ محمد بن عبد الوهاب؟

الـمبحث الثالث: التكفير بالكبائر.

الـمبحث الرابع: التكفير بالعموم.

الـمبحث الخامس: تكفير المعين.

الـمبحث السادس: قيام الحجة.

الـمبحث السابع: العذر بالجهل.

الـمبحث الثامن: القتال.

الفصل الخامس: موقفه من ولاة الأمر. وقد جعله في ثلاثة أصول:

الأصل الأول: السمع والطاعة لولاة الأمر.

الأصل الثاني: تحريمُ الخروج على ولاة الأمر.

الأصل الثالث: النُّصح لولاة الأمر.

الخاتمــة: وفيها بيان بعض المسائل التي خالفتْ فيها الجماعاتُ الغالية في التكفير منهجَ الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه، ثم أبرز النتائج، ثم المصادر والفهارس.

وأهم نتيجة بحثية خرج بها المؤلف من بحثه وأكد عليها في خاتمته هي:

"أن نسبة الجماعات المتطرفة إلى دعوة الشيخ مثل السَّراب لدى الفريقين: المنتسب زورًا إلى دعوة الشيخ من أتباع الجماعات الغالية في التكفير، أو النَّاقد للشيخ محمد بن عبد الوهاب والمتهم له بأنه يمثل القاعدة الأساسية لهذه الجماعات.

فإنه عند التحقيق في منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب نجد أن انتساب هذه الجماعات أو نسبتها إليه مجرد وهْمٍ وسراب يحسبونه حقيقة، حتى إذا جاؤوا عند منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودرسوه وأدركوا أصوله وتطبيقاته عرفوا أنهم لم يجدوا شيئًا مما ظنوه فيه، فخابوا وخسروا، فهذه الجماعات الغالية ليست نبتة سلفيَّة، بل نبتة خبيثة نبتت أو أُنبتت داخل المنهج السلفي حتى يتهمون بذلك المنهج السلفي البريء من هذه الجماعات تنظيرا وتطبيقًا.

ولا شك أنَّ مجرد الانتساب لا يعني تحقُّق هذا الانتساب، كما أنَّه قد مرَّ بنا أكثر من مرة أن المُنتسب إليه لا يتحمل خطأ المنتسِب، فلا يمكن القول بأن جماعة من الجماعات نبتة سلفية لأنَّها ادعت أنها أخذت بأصول الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولِمَ لا نقول عنها إنها نبتةٌ قرآنية؟ فإنهم في كل فعلٍ يفعلونه يستدلون عليه بآيات من القرآن الكريم وبنصوص من السنة النبوية، فما يكون جوابًا هنا يكون جوابًا لنا هناك، وهو ما يعرفه جميع العقلاء من أن الانتساب إلى منهجٍ بمجرد القول لا يعني صحة هذا الانتساب، ولا يتحمل المنهج خطأ من يأخذ أفكاره ويفهمها فهمًا خاطئًا ليطبقها تطبيقًا خاطئًا"!

ولتأكيد هذا التباين والتنافر ما بين منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وبين منهج هؤلاء بين المؤلف أبرز الـمسائل التي يخالف فيها الشيخ محمد بن عبد الوهاب تلك الجماعات الـمتطرفة وهي:

(1)         قضية التكفير بالعموم. فإنَّ الجماعات المتطرفة كما تشهد له أقوال منظريه يكفرون الحكومات الإسلامية ثم يكفرون الشعوب تبعًا لها؛ ولذلك لا يتوانون في قتل الأبرياء وفي بيوت الله!

(2)         قضية التكفير بمسائل اجتهادية؛ فإن مذهب الشيخ واضحٌ وصريحٌ في أنه لا يكفر إلا بما أجمع عليه المسلمون، وليس هذا منهج الغلاة فإنهم يكفرون بما يعتقدونه كفرًا وإن خالفتهم الأمة في ذلك.

(3)         قضية الحكم على المعين؛ فإن الجماعات المتطرفة لا تؤصل لمسألة شروط وضوابط تكفير المعين؛ ولذلك تجدهم يكفرون كل من تلبس بفعلٍ يظنونه كفرًا وقد لا يكون كذلك.

(4)        قضية قيام الحجة وما يبنى عليها.

(5)         قضية العذر بالجهل؛ فإن هذه تكاد تكون غائبة عند الجماعات المتطرفة.

(6)         قضية التعامل مع القتال؛ فإن الجماعات المتطرفة منهجها في القتال يخالف منهج الشيخ في قتل الأبرياء وقتل المسلمين وانتهاك حرمات المساجد، واستحلال الدماء.

(7)         قضية تكفير ولاة الأمر؛ فإن الجماعات الغالية في التفكير تكفر حكام المسلمين وترى عدم شرعية حكوماتهم.

(8)         قضية الخروج على ولاة الأمر. وهذ مما تُؤصل له الجماعات الغالية بناء على مذهبهم في عدم شرعية هؤلاء الحكام.

(9)         قضية عدم السمع والطاعة.

(10)    قضية التعامل مع العلماء؛ فإن منهج الغلاة هو تكفيرهم تبعًا لتكفير حكوماتهم، وذلك بناء على أنهم علماء مداهنون، وهذه دعوى بلا دليل وقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب كما مر بنا يدعو إلى الرجوع إلى كلام العلماء وإلى احترامهم وتقديرهم.

فهذه عشر قضايا فيها خلافٌ بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب وبين الجماعات الغالية في التكفير؛ بل تناقضٌ في المنهج والتطبيق، وهي قضايا مبحوثة في هذا البحث".

وبالإضافة إلى هذه النتيجة توصل الباحث إلى نتائج مهمة يحسن بنا أن نستعرضها لأهميتها في الوقت الراهن وهي:

(1)         التَّشنيع على الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالخصوص جاء من منطلق أنَّه يمثل مدرسة علميَّةً قائمةً لها علماؤها ودعاتها وكتبها ومدارسها، ومنهجها: الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، وهي المدرسة التي تُحارَب اليوم وتُرمى بكثيرٍ من التهم الزائفة؛ من أهمها: أنها أرضيَّة خصبة لبعض فرق الغلو في التكفير، فاختاروا الشيخ وتقريراته ليسقطوا المنهج بأكمله.

(2)         الاختلاف واقعٌ في الأمة، ومن عرف الطريقة الشرعيَّة في التعامل معه استطاع أن يتخلص من الطَّرفين المذمومين، وهما: التساهل وترك أمور الدين بحجة الاختلاف، أو التشدد والغلو، والمنهج الوسط هو منهج أهل السنة والجماعة وهو ماكان عليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب.

(3)         انتهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب نهج السلف الصالح في أدبيات الاختلاف مع الآخرين، فلم يظلم ولم يكفر ولم يفسق كما يقول عنه أعداؤه، بل كان تعامله مع الاختلاف ومع المخالفين مأخوذ من الهدي الشرعي من نصوص الكتاب والسنة.

(4)         كان للإمام محمد بن عبد الوهاب ولأتباعه من بعده اهتمامٌ بالغ بجمع الكلمة والتحذير من الافتراق، ولذا كان يدعو مخالفيه في رسائله إلى الاجتماع على الحق وعدم الاختلاف.

(5)         كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب يفرِّق بين الاختلاف السائغ وغير السائغ، ويرى الإنكار والنصح في المسائل التي لا يسوغ فيها الخلاف.

(6)         كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب يرى عدم الإنكار في المسائل الاجتهادية، وهي التي يسوغ فيها الخلاف، فالأمر فيها واسع، وهذا عكس ما يشنع به عليه المخالفون من أنه لا يراعي المسائل الاجتهادية.

(7)         كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب يدعو مخالفيه إلى الردِّ إلى الله ورسوله عند النزاع، ذلك أن المطلوب منا هو اتباع الكتاب والسنة، وباتباعهما يزول الخلاف غير السائغ، ولذلك يؤكد في رسائله على أنه ليس المراد من دعوته هو اتباع شخصه وإنما اتباع الحق.

(8)         كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب متجردًا للحق، ويظهر ذلك في دعوته المخالفين إلى تصويبه ونصيحته إن خالف الحق، وفي دعوة المخالفين إلى التجرد للحق واتباع الكتاب والسنة، وفي توقفه في عدد من المسائل.

(9)         يظهر في رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: إحسانُه الظَّن بمخالفيه، وإنصافه لهم، وعدله معهم، والتحقق من أقوالهم قبل نقدهم حتى لا يقوِّلهم ما لم يقولوه.

(10)    الشدة مع المخالف تكون وفق ما ورد في الكتاب والسنة، فلا إفراط ولا تفريط، وهو ما كان عليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب في تشديده على بعض المخالفين بما يحقق المصلحة الشرعية.

(11)    براءة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب من التُّهم التي شنع بها المخالفون عليها في باب التكفير والقتال.

(12)    منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب في باب التكفير هو منهج أهل السنة والجماعة، أما الفرق الغالية فإنها تخالف الشيخ محمد بن عبد الوهاب في هذا الباب تنظيرًا وتطبيقًا.

(13)    يؤكد الشيخ محمد بن عبد الوهاب على أنَّ التكفير حكمٌ شرعي، وبناءً عليه فلا تكفير إلا بدليل، ولا تكفير بالمقابلة؛ فلم يكن الشيخ يكفر أحدًا لمجرد أنه كفر الإمام.

(14)    كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب يصرح بأنه لا يكفِّر إلا بالمسائل المجمع عليها.

(15)    من أكثر التهم التي يُتَّهم بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته: أنه يكفر عموم المسلمين، ولا تكاد تجد أحدًا كتب ضد دعوة الشيخ إلا وقد كرر هذه الفرية، وقد نفاها الشيخ عن نفسه في حياته، وبين أنها من البهتان ليصدوا الناس عن الدعوة.

(16)    منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب في قضية التكفير والإعذار بالجهل وقيام الحجة هو منهج أهل السنة والجماعة، وهو منهجٌ وسط لا إفراط فيه ولا تفريط، فلا يقول أهل السنة بعدم التكفير، ولا يقولون بتكفير العموم ولا بتكفير أحد بما ليس بمكفر.

(17)     من أخطاء من يشنع على الشيخ محمد بن عبد الوهاب: أنهم يأخذون نصوصه في تكفير الفعل فينزلونه على تكفير المعين، ثم يبنون عليه أن الشيخ  قد كفر عموم المسلمين، وهذا فهمٌ خاطئ، فإن الشيخ محمد بن عبد الوهاب كغيره من أهل السنة يفرقون بين تكفير الفعل وتكفير فاعله، فلا يلزم من بيان كفر الفعل أنهم يكفرون الفاعل.

(18)    قضية العذر بالجهل كانت حاضرة في تقريرات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وبين في كتبه أنه يعذر بالجهل في حالات دون أخرى كما مرَّ بنا تفصيل الكلام في المسألة.

(19)     يرى الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن حكم التكفير لا يقع على المسلم الواقع في بعض صور الشرك إلا بعد قيام الحجة، وقد أكد على هذا مرارًا في كتبه، فلا يكفر كل من فعل فعلًا كفريًّا إلا بعد التأكد من قيام الحجة وانتفاء الموانع، وهذا هو منهج أهل السنة والجماعة.

(20)    قضية قيام الحجة عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب مرتبطة بحال المكلف من حيث علمه وجهله، ومن حيث قربه من حاضرة العلم وبعده عنها.

(21)    يخطئ كثير من الناس في قضية القتال حين ينظرون إلى القضية من جانبٍ واحد بعيدًا عن سياقه التاريخي، وقد بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأنه لم يأت لقتال الناس وإنما لدعوتهم.

(22)     موقف الشيخ محمد بن عبد الوهاب من ولاة الأمر هو موقف أهل السنة والجماعة، فقد أكد في كتبه على وجوب السمع والطاعة، وتحريم الخروج، ولا يخفى أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أقام دعوته مع الدولة المباركة مع الإمام محمد بن سعود t.

(23)    بعد الدراسة والاطلاع على كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب نجد أن تنظيراته وتطبيقاته بعيدة عن تنظيرات وتطبيقات الفرق الغالية، وأن نسبة هذه الفرق إلى دعوة الشيخ زورٌ وبهتان، فمجرد انتسابهم أو نشرهم لبعض كتب الشيخ لا يعني صحة انتسابهم، فإنهم يأخذون بالقرآن أيضًا وينشرونه لكنهم يفهمونه فهمًا خاطئًا، وكذلك الحال مع تقريرات الشيخ محمد بن عبد الوهاب.

(24)     من أبرز المسائل التي خالفت فيها الفرق الغاليةُ الشيخ محمد بن عبد الوهاب: قضية التكفير بالعموم، والتكفير بمسائل اجتهادية، وقضية الحكم على المعين، وقيام الحجة، والعذر بالجهل، والتعامل مع القتال، والموقف من ولاة الأمر، والتعامل مع العلماء، وغيرها.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.



([1]) ينظر: أبحاث في الفكر اليهودي، حسن ظاظا (ص: 119).


المرفقات

  • {{__('blog.Noattachements')}

Comments

Ar

Arrorplig

منذ سنة

Regulation of the pharmaceutical industry in Europe differs from regulations in the U <a href=https://acialis.mom>discreet cialis meds</a>

Leave a comment

Blog categories

عربة التسوق

Loading...